كتابة – مهندس معمارى / محمد اللبان & مراجعة ونشر – مهندسة معمارية / شيماء مجدى.

ِمن فضلك قبل البدء بالقراءة قم بتشغيل الموسيقى بالرابط في الخلفية … رحلة سعيدة❤❤

مقدمة

العمارة الإسلامية حين نذكرها ,فإننا نذكر وبدون تفكير وبكل تلقائية مصر القديمة وشوارع المعز وخان الخليلي ومسجد محمد علي وقلعة صلاح الدين ومنازل الدرب الأحمر وبيت السحيمي، يخطر ببالنا الأرضيات البازلتية والشوارع المنكسرة الضيقة والأغطية الممتدة على طول الشارع مظللة المارة والمعروضات على جنبات الطريق.

تلك الصورة التي لا تفارق أي بال وإن زارها مرة أو رآها في أحد الصور فقط فلن تنسى أبدا شعور قدميك على تلك الشوارع وعظمة أقبيتها وعراقة أبوابها وروائح العطور الفائحة منها والمنازل بالمشربيات والأسطح بالملاقف و الأفنية والأشجار.

كل تلك الصور وكل تلك الرحلة تقفز بخيالك وأمام عينيك فقط لوقع الاسم على أذنيك … العمارة الإسلامية.

دوافع العمارة الإسلامية

إن الأهم من زيارة ورؤية تلك المناطق والانبهار بها إيجاد علة التكوين وخلق مثل هذه العمارة لمعرفة كيف فكر هؤلاء سابقا ومن أين لهم بهذا الإبداع في الزخرفات وفي الحلول البيئية الممتازة والأنظمة الإنشائية التي تفوق الوصف والتي تنسجم بشتى الطرق مع الإنسان وبيئته ومناخه بل وحتى مزاجه الخاص لمسايرة طريقة التفكير وابتكار العناصر الخاصة بنا حين الحاجة. كيف وجدوا المحددات والمشكلات وكيف تغلبوا عليها وخرجوا لنا بتلك المنحوتة الجميلة المتناسقة وتلك المعزوفة الراقية الجميلة.

– إن السر في تميز العمارة الإسلامية هو تميز واكتمال سر العمارة المحرك لمهندسي ومعماري هذا العصر والآن سنغوص قليلا في معرفة كيف ابتكروا هذه العمارة وكيف سيمكننا استنباط فنون العمارة الأخرى التي تلائم عصرنا وبيئتنا وديننا.

– المكون الأساسي والرئيسي وإن اختفى أو أهملناه في هذه العمارة هو الإسلام نفسه … إن الدين نفسه هو سر الخلطة في هذه العمارة المهولة الإنسانية وسنبدأ الحديث من الأعم للأخص.

1- الفتحات والخصوصية

في البداية أثر الدين في الشكل الخارجي للمباني الإسلامية بأن قلل فتحاتها الخارجية حفاظا على خصوصية المسلمين بداخل منازلهم فكانت الفتحات الخارجية قليلة جدا وصغيرة جدا والكبير منها مغطى باختراع المسلمين الخالد حتى الآن ألا وهو المشربية،

والمشربية هي عبارة عن صندوق خشبي مكون من شرائح متقاطعة من العروق الخشبية والتي تعمل على خلخلة الضوء الداخل والحد من إنفتاح الداخل على الخارج حفاظا على خصوصية المستخدم كما حث الله في دينه وإلى الآن فلازالت المشربيات في تطور دائم ومستمر لإثباتها أنها جديرة بالثقة في تأدية مهماتها المطلوبة من عزل بصري وحراري بل وترطيب جوي أيضا للفراغات بالداخل.

وكما أشرنا فالغرض من مقالنا هذا ليس التمسك بالقديم أو مجرد تحليله ولكن معرفة العلة والمشكلة لابتكار بدل الحل آلاف طالما يؤدي الغرض ولذا سنعرض بعض العناصر العصرية التي تدرج تحت مسمى المشربية حيث أنها تؤدي وظيفتها .

ومن أبرز هذه الابتكارات هي التغطية الخارجية للحوائط الزجاجية من مثلثات برج البحر إلى تراكيب قبة لوفر أبو ظبي ومثيلاتهم فمادام السبب واحد فالتسمية واحدة وإن كانت قد فقدت الابتكارت الحديثة وظيفة واحدة من وظائف المشربية قديما وهي الشرب من الفخار فبسببها سميت “مشربية” حيث كانت تبرد الماء بنسيم الهواء والفحار وكان نتح الماء البارد على الفخار يعمل على ترطيب الهواء الداخل للفراغ.

يمنكم مشاهدة هذا المبنى وكيفية عمل المشربيات خلال هذا الفيديو القصير بعدسة معماري

قبة ماخوذة من فكره المشربية فى متحف اللوفر بأبو ظبى

يمكنكم مشاخدة هذه الجولة بعدسة معماري داخل متحف اللوفر أسفل القبة الضخمة من هنا

2- الزخارف والخط العربي

ولعلك الآن تتسائل عما تراه من زخارف على جدران تلك الأبنية وكيف يمكن خلق هذه الأشكال المعقدة للغاية باستخدام تراكيب الأشكال البسيطة جدا والسر ومرة أخرى هو الدين القائد لهذه العمارة.

إن بتحديد الصور والرسوم والتماثيل وخلافه من الاستخدام في الإسلام جعل المهندسين تحت هذا المحدد يغوصون بأعماق فكرهم وإبداعهم بحثا عن الجمال فيم حولهم من أشكال بسيطة والتركيب بينها والتداخل والاقتصاص فظهرت الزخارف الإسلامية بشكلها الحالي بعد عمليات هندسية كونت عشرات بل مئات الأشكال والزخارف المعقدة الرائعة , فقط لاعتماد الإنسان على خياله وما عرفه من أشكال هندسية وعدم اكتفاؤه بما حوله من كائنات ففتح الله له بابا أوسع للإبداع والإبتكار بأن يخلق الإنسان نفسه طابعه الخاص ورموزه الخاصه التي أصبحت علامة مهمة ومميزة نفتخر بها إلى الآن.

ومن هذا أيضا إنطلق الإبداع فى الخط العربي فاستخدمه المسلمون في تزيين جدرهم ومحاريببهم وابتكروا عشرات الخطوط الفنية الأخاذه الجميلة من خط ثلث وكوفي وغيره من الإبداع الذي يزين كل مكان في المساجد والقباب وعلى جدران المنازل والقصور بل وحتى الخواتم والحلي … وكل هذا بسبب توجيه الإسلام العقول للابتكار لا مجرد الاستخدام مما هو متاح من حيوانات كالبابليين او أشخاص كالرومانية واليونانية.

3-العقود على الواجهات

وتستمر رحلتك حول ذلك المبنى الإسلامي وأنت تراقب تتابع العقود والتيجان على الجدران وترى الحوائط البارزة والغاطسة .

ابتكرها المسلمون تعويضا عن قلة الفتحات وبذلك فهي تعمل على إلقاء الظلال على الجدران وعلى مداعبة عيون الناظر بهذا الجمال المزخرف العتيق الممتزج مع صلابة الجدران بحيوية المفرنصات وتشابكها سويا برقصة هندسية عبقرية لا تتولد إلا من عقل أبدع بعد تفكير ودقة بعد تعمق ودراسة وجمال بعد اهتمام عالي جدا بالتفاصيل.

فتجد في تتابع تلك العقود وتتابع ظلالها وحركة تلك الظلال بحركة الشمس أعلاك رقصة الطبيعة تعرض على جدران المبنى أمامك يتخللها مسام الحجر المستخدم في بناء هذا الصرح وفي نفس الوقت وأثناء هذا الفن فتلك الغواطس والبروزات تؤدي دور بيئي مهم يعمل على تقليل السطح المتعرض لآشعة الشمس من المبنى.

4-المدخل المنكسر

ولا تزال أنت تدور حول هذا الجمال التفصيلي حتى تلحظ عيناك مدخل هذا الجمال فتجد أوله سد وفاصل بين الخارج والداخل لمراعاة الخصوصية وللتمهيد لساحة الاستقبال والانتقال من المساحة العامة للجميع في الشارع إلى الفراغ الشبه خاص داخل المبنى من فناء أو إيوان للاستقبال.

تجد المدخل بارزا عن حائطه تعلوه زخارف وزينة تدل على حرفية الصانع ودقة وتفصيل المعماري القائم بهذا العمل واهتمامه براحة ومتعة الإنسان البصرية خاصة حين تختلف الألوان أو الخامات بين الحائط والمدخل وبين المدخل والزخارف فتجد لوحة فنية بسيطة في تعقيدها معقدة في بساطتها مكونة من عقد متوج بزخارف بارزا للشارع مرحبا بك ويقطع طريقك ليلفت انتباهك معلنا عن نفسه في بهاء وأصالة.

5- الغاطس والبارز

لعلك الآن ومن خلال ملاحظتك للعقود المصطفة على حوائط المبنى والمدخل المنكسر قد لاحظت النوتة المستخدمة في تلك العمارة؛ نوتة الظل والنور، النوتة الإلهية التي استخدمها الله للتفريق بين الحق والباطل وبين خير وشر.

تجدها هنا استخدمها المعماري للتفريق بين حار وبارد وبين ضغط مرتفع وضغط منخفض وبين أوقات اليوم تبعا لزوايا الظل على تلك الحوائط، ستلاحظ الآن أن أهم ما يميز العمارة الإسلامية هي عدم انتظام التشكيل في الكتل محاولة لاستخدام تلك النوتة بأكبر كم ممكن ففي استخدامها راحة مناخية حرارية ومتعة وجذب بصري بل وأيضا خلخة للهواء وتحريك له.

تلك النوتة يعتمد استخدامها في إبراز أجزاء معينة قد تكون مهمة لكثرة استخدامها مثل السلالم والمداخل وقد تكون أهميتها على العكس في ندرة استخدامها ودخولها كمجالس استقبال العلماء أو المفراغات التي تتمتع بقدسية خاصة ومناسبات خاصة لدخولها.

تلك الظلال وليدة مشكلة المناخ الجاف الحار في المناطق الصحراوية بشكل خاص وفي الدول العربية بشكل عام فنجد نظام الغطس والإبراز متبع في كافة المناطق الحارة حتى في المقياس الأكبر كالتصميم العمراني وليس مقتصرا على فراغ سلم إنما هو كما قلنا حل من الحلول بناءا لى مشكلة قدمتها البيئة للمعماري المسلم الصحراوي.

6-الخامات والمواد

لم تنفرد العمارة الإسلامية أو تتميز عن غيرها بمواد أو خامات معينة لكنها كانت تتبع محدد البيئة فإذا توافر الحجر استخدموه وإن توافر الطين اللبن تعاملوا معه فلم يكونوا منفردين بنوع معين من المواد كنظيرتها اليونانية مع الرخام على سبيل المثال لكن الأهم هو استخدام الخامة الملائمة للبيئة للعزل الحراري والراحة المحسوسة داخل الفراغ مما يزيد من اتصال الشخص به.

ختاما

في نهاية هذا المقال وجب توضيح الغرض منه مرة أخرى، لم يكتب هذا المقال لنسخ ولصق المشربيات بل لابتكار الحل العصري المناسب للبيئة والدين، وكما ابتكر المسلمون قديما مشربيتهم عليك أنت الآن ابتكار مشربيتك الخاصة بطريقتك الخاصة وعمل زخرفتك الخاصة، إن كانت الزخارف قديمة تقاطع مربعات في بعدين فقط فالآن هو دورك لإدخال البعد الثالث بل والرابع والخامس وكلما تقدم العلم تقدم أنت أيضا بدورك، استخدم مواد وسبائك بخواص حديثة تتأثر بالحرارة، استعمل تقنيات تصنيع لم تكن متاحة من قبل.

ابتكر لغتك المعمارية الخاصة بفكرك الخاص وحلولك للمشكلات المعروضة عليك من البيئة والمحددات المعروضة عليك من قيمك الدينية، ففي النهاية غرض العمارة الأساسي هو جعل حياة الناس كل الناس أيسر حتى وإن عاش مسلما في منزل قوطي فدور العمارة الأول والأخير هو الراحة وكلما زاد على الراحة قيما فهو خير مادامت لم تفقد الراحة والإنسانية في العمارة.

---

ولتعرف المزيد عن العمارة الإسلامية يمكنك الاطلاع على هذه المقالات:
أهم طرز العمارة الإسلامية(الأموي،العباسي،الفاطمى،الأيوبي ، المملوكي ،العثماني)
العمارة الإسلامية تاريخ فريد ومفردات لن تندثر (2)
المساجد وأسس تصميمها – سلسة المبانى الدينية (الجزء الأول)
عناصر العمارة الإسلامية المميزة- سلسلة المبانى الدينية (الجزء الثانى)
العمارة الإسلامية الحديثة -سلسلة المبانى الدينية (الجزء الثالث)
جامع الشيخ زايد الكبير(سادس أكبر المساجد في العالم)- بعدسة معمارى 2020
معرض الحرمين (شاهد على تطور الحرمين عبر العصور / 1420 هـ – 1999 م )
مسجد كامبريدج المركزي – أول مسجد مستدام في أوربا 2019