علاقة العمارة بالسلوك وهل الإنسان هو الذي يبني العمران أم أن العمارة هي من تحدد سلوكه؟ من يبني من؟!-سلسلة العمارة النفسية-2

كتابة –مهندسة معمارية/ عزة رضا أبو السعود & مراجعة ونشر- مهندسة معمارية /وفاءأو العطا

مقدمة

العمارة مرتبطة ارتباطآ وثيقآ بسلوك الانسان فكيف ذلك ؟
يعتبر المأوى للإنسان هو أحد أهم حاجاته الأساسية ، وإذا كان الإنسان يقضي ما بين 80 و90٪ من حياته في الداخل محاطًا بأشكال إضاءة صناعية وألوان وأثاث فكل هذه البيئات المبنية تؤثر على حياتنا وشخصيتنا، ومعرفة البيئة المحيطة بالإنسان بما يتضمن من الحيز الداخلي الذي يعيش فيه سواء كان الحيز مسكناً يقطنه أو فصلاً يدرس فيه أو …. هذا كله لن يقل أهمية عن معرفة خصائص الحيز مقدمة:الذي يحيط بهذا الحيز الداخلي .

وهو ما دفع المتخصصين في علم العمارة والهندسة المعمارية لمحاولة تحسين حياة البشر بل وتغييرها في بعض الأحيان، فإن تاريخ البشرية تسجله الأعمال الباقية لنا من معمار وآثار وتعطينا معلومات عن حالة البشر حينئذ وطبيعة المجتمع من نواحي عدة .

فالعمارة  في جوهرها هي العلم الذي يدرس المقاييس والنسب، ويهتم بما لهذه المقاييس من تأثير على تصرفات الإنسان وسلوكه وتعامله معها ، لاسيما وأن الهدف من إقامة المنشآت المختلفة  هو خدمة احتياجات الإنسان وإشباع رغباته ، فالعمارة ينبغي أن تهتم بالنظم الاجتماعية وهي تتلخص في دراسة جميع مظاهر سلوك الإنسان وما يتعلق بالعمارة النفسية ولهذا سوف نناقش اليوم بعدسة معماري التساؤلات الآتية :

– ما هو تأثير العمارة على سلوك الإنسان ؟
-وكيف يهييء المعماري البيئة لتوفير الراحة للإنسان؟
-وهل يمكن أن يكون للعمارة تأثير سلبي على سلوك الإنسان؟ 
-وما تأثير طباع الإنسان وطريقة تفكيره في إنشاء العمران؟
كل هذه الأسئلة هي مدار مقالنا اليوم ، فدعونا نبدأ :  

تأثير العمارة على سلوك الإنسان

العمارة تهدف إلى تحسين حياة الإنسان وتنظيم سلوكه وهذا التنظيم يؤثر بك دون شعورٍ منك وقد يحد أحيانًا من حرياتك أو يفرض عليك سلوكًا ما ،فما هي الطرق التي تؤثر بها العمارة على السلوك ؟

* التقطيعات الداخلية والممرات التي تشجع أو تحد من التفاعلات الاجتماعية:

فغالباً ما يهدف التصميم للتأثير على المستهلك وخلق تفاعلات بين مختلف مستخدمي الفراغ فتجد الأبواب والممرات تحفز أو تخفض الاتصال بين المستخدمين وهنا يتحكم المصمم بنقاط التقاء المستخدمين ومسارات حركاتهم ، كما أن المصممين يهدفون لخلق بيئة متكاملة تغير السلوك والنفسية وعادات المستخدم .

* وضع العناصر الفيزيائية:

حيث يحاول المصمم تحديد مسار وهمي يسلكه المستهلك حتى يصل لأقصى استفادة من المبنى فنجده يضع المرايا وسلات التسوق في أماكن معينة تؤثر على سلوك المستهلك.

* تغيير خصائص المكان:

بإجبار المستهلك على القيام بسلوك معين وجعل النشاط أقل أو أكثر راحة،فتجد محلات الوجبات السريعة تصنع مقاعد غير مريحة لإجبار المستخدمين على عدم المكوث طويلًا

إليكم بعض الأمثلة من دور العمارة في تغيير السلوك:

   مثال ( 1 )  العمارة المكافحة لنشاط التزلج
في الولايات المتحدة الأمريكية ينتشر التزلج على الألواح واعتاد المتزلجون أن يقفزوا عند حافة الرصيف لعبور الشارع ولكن في المقابل قام المصممون بعمل فكرة لوقف هذا النشاط الغير محبب وذلك بوضع حواجز معدنية على أطراف الرصيف وعلى الأسوار المنخفضة وبعض النتوءات في الأرصفة التي لا يفضل ممارسة هذا النشاط عليها ،
هذه القطع المعدنية قد تمنع من الجلوس فوق الأسوار المنخفضة ، وهذا النشاط يعرف باسم anti skateboard architecture
بمعنى العمارة المكافحة لنشاط التزلج، بالرغم من أن هذا  التصميم لقى استهجان المتزلجين لأنه  يقيد حريتهم ولكن في  المقابل أعجب به الكثير من الأهالي  لأنه يوفر لهم ممشى آمن.

العمارة 
سلوك
الإنسان
بعض أشكال الحواجز المعدنية من أجل مكافحة نشاط التزلج في بعض الأماكن -العمارة تعدل سلوك الإنسان

مثال ( 2 ) يقوم المهندسون المعماريون بتصميم مقاعد للحدائق غير مريحة عن قصد
هذا المقعد معروف باسم (Camden Bench)
هو مقعد يوجد في الأمماكن العامة تم العثور عليه في شوارع لندن.فهو بارز من الأعلى لمنع النوم ، حوافه متموجة لمنع التزحلق ، وهو مصمم بشكل مقاوم للطلاء حيث أن حبيبات الخرسانة الخاصة به لا تتشبع بمواد الطلاء لمنع الكتابة على الجدران ، يتدلى عند القاعدة لمنع سرقة الأكياس ، لا توجد به شقوق لمنع تداول المخدرات ، لا توجد به أسطح مستوية لمنع تراكم القمامة … لا يزال بإمكانك الجلوس عليه ، ولكن صنع ليؤدي هذا الغرض فقط ويمنع سلوكيات غير مرغوب فيها .

مثال ( 3 ) وضع الصخور لمنع النوم أسفل الكباري
يعد النوم أسفل الجسور أمر خطير وغير مرغوب به خاصة بالنسبة لرجال الشرطة حيث أنها تمثل مكان للعديد من الجرائم لذا يتدخل المعماري لمنع التواجد في هذه المنطقة بعدة حلول.
فإذا رأيت مثلا صخور متراكمة أسفل جسر كما أن حجمها ليس بصغير فستجد نفسك تتجه لمكان آخر ممهد وقد يكون شكلها وتنسيقها جميل وقد تظن أنها وضعت لذلك الغرض الجمالي ولكنها في الواقع معدة لمنع الأشخاص من الجلوس والنوم عليها

وضع أحجار وأجزاء مدببة لمنع النوم و الجلوس أسفل الكباري

التأثير السلبي للعمارة على سلوك الإنسان 

ربما لن يجعلك المبنى بصحة جيدة  ولكنه قد يجعلك مريضًا فالتصميم الفاشل للعديد من مشاريع الإسكان القديمة لذوي الدخل المحدود كان السبب في هدم الكثير منها.

* مثال ( 1 ) على مستوى التصميم الحضري
مجمع الإسكان (  Pruitt-Igoe housing complex) الذي أنشأ في الخمسينيات في سانت لويس بولاية ميسوري التي تحتوي على 33 شقة سكني حيث أنه عبارة عن مباني شاهقة ذات مساحات بينية مفتوحة ثبطت الإحساس بالمجتمع والإحتواء مما أدى لرفع معدلات الجريمة و تم هدمه في نهاية المطاف في عام 1972.


تفجير مجمع الإسكان (  Pruitt-Igoe housing complex) الذي أنشأ في الخمسينيات في سانت لويس

فاليوم ، بفضل الدراسات النفسية ، لدينا فكرة أفضل بكثير عن نوع البيئات الحضرية التي يحبها الناس
أو يجدونها محفزة لنشاطاتهم وحياتهم.

** مثال ( 2) على مستوى العمارةالداخلية
نجد واحدة من أكثر المباني المشوشة هي مكتبة (Seattle Public Library ) التي فازت بجوائز متعددة لهندستها المعمارية  حيث تقول Dalton التي درست في Northumbria University حيث درست المبنى لعدة سنوات وحررت كتابًا حوله (انه مكان يحظى بإعجاب عالمي من قبل المهندسين المعماريين)


مكتبة (Seattle Public Library ) من الداخل والخارج

لكن أراء بعض الزوار جاءت معاكسة لذلك حيث قالوا إنها مربكة ، مما يثبت أن التصميمات الداخلية يجب أن تسهل الشعور بالاتجاه حيث أن إحدى المشكلات في المكتبة هي السلالم المتحركة الضخمة ذات الاتجاه الواحد التي تجعل الزوار يصعدون من الطابق الأرضي إلى الطوابق العلوية بدون وسيلة واضحة للنزول.

تقول Dalton : أعتقد أن هناك رغبة لدى المهندسين المعماريين في محاولة إحباط التوقعات مما يزيد فضول الزائر ويجذب انتباهه   ولكن لسوء الحظ هذا لم يحدث حيث علقت إحدى مستخدمي المكتبة بأنها “غادرت المبنى بمجرد أن تمكنت من معرفة كيفية الخروج حيث أنها لم تتحمل المزيد من القلق.

تأثير الإنسان علي العمران:

یظهر تأثير الإنسان وسلوكه في البيئة العمرانية على مستوى تصميم الوحدات المبنية والواجهات بل یتعدى لیشمل التصميم والتخطيط الحضري العام ، وفیما یلي نماذج لتأثير الإنسان وسلوكه على البيئة العمرانية:

فیظهر هذا التأثير جلیاً في طريقة التشكيل فلكل حضارة سماتها التابعة لمعتقدات وسلوكيات الإنسان بها ومثال لذلك: – المدن الإسلامية القديمة؛ فالتوجهات الإسلامية تحض على البحث عن أكبر قدر من الخصوصية في المجتمعات السكنية؛ الأمر الذي أدى إلى ظهور الأشكال النمطية للكتل ، وكذلك انعدام المیادین داخل الأحياء، بالإضافة لوجود میدان رئيسي في مكان وسطي بالمدينة به المسجد ومقر الحكم والمباني العامة.

أما الوحدات السكنية والواجهات فنجدها تتأثر أيضًا فتجد المجتمعات الإسلامية تمیل إلى الخصوصية والفصل بین الرجال والنساء، فنجد ذلك یظهر في توزيع الفراغات حیث یتم تخصيص فراغات للرجال وأخرى للنساء مفصولة عن بعضها البعض.

وكذلك تظهر هذه الخصوصية في التشكيل الخارجي فقد ظهرت بعض العناصر التي توكد على الأمر كالمشربيات؛ فبالإضافة لوظيفتها المناخية فهي توفر نوع من الخصوصية لسكان المنزل.


توضح الصور استخدام المشربيات في المباني كنموذج لتأثير الانسان وسلوكه على المبنى

ومثال آخر / لاستخدام بعض الشعوب للزخارف والرسومات في واجهات المباني بصورة تعكس ثقافة الإنسان الذي یسكن هذه المناطق، كالنوبة جنوب مصر.

كما أن شكل المبني وتصميمه لا يؤثر على إنتاج الفرد ومقدار استفادته من المبني فحسب بل أيضًا علي العلاقات الاجتماعية بين الأفراد الذين يشغلون المبني بل وبينه وبين الأفراد الخارجين عن هذا المبني وهذه العلاقات هامة في حياة الإنسان ومثال علي ذلك ما يلي-

فكما أن الإنسان يحتاج في منزله للخصوصية التي يستقل فيها عن جيرانه فهو يحتاج أيضا إلي أن يوفر له المكان الذي يقيم فيه العلاقات الاجتماعية بين الأفراد ولعل أفضل الحلول لذلك المساكن المنفصلة حول الفناء الواحد فانفصالها ينتج الخصوصية وتجميعها علي هذا النحو يتيح الفرصة لتكوين العلاقات الاجتماعية الصحية .ونجد ذلك جليا في المسكن الإسلامي القديم حيث التقارب والانفصال في الوقت نفسه (متجمعة في تكوينات لا تفرقها عن بعضها إلا شوارع ضيقه منحنية ومتلاصقة )

وكما شاهدنا فإن للعمارة دور هام في تغيير السلوك ولها أيضا دور هام في التأثير على نفسية المستخدمين لمعرفة المزيد يرجى الإطلاع على هذا المقال

ختامًا :فإن العمارة هي صنيع الإنسان للإنسان ولهذا يجب على المعماريين الاهتمام بجوانب حياة الإنسان وسلوكه ونفسيته وراحته المادية والمعنوية فكما لسلوك الانسان تأثير على العمارة فإن للعمارة تأثير على سلوك البشر حيث تقوم الأخطاء وتعالج المشكلات وتحد من الظواهر السيئة وهذا ما يجعل حل المشكلات العمرانية والبيئية على عاتقنا نحن المعماريين ويزيد واجبنا نحو المجتمع.

المراجع :


1-Bond, Michael)6th June 2017 ( The hidden ways that architecture affects how you feel   : https://www.bbc.com/  

2-https://tvarijonas.com/blog/camden-bench-segregation-by-design 

3-  Selena, Savić  (March 26, 2015) Architects are purposely designing uncomfortable park benches :  https://qz.com/370163/architects-are-purposefully-designing-uncomfortable-park-benches/ 

4-تأثیر السكن العشوائي على سلوكیات الأفرد     http://repository.sustech.edu/bitstream/handle/123456789/22015/%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B5%D9%84%20%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D8%B9%20.pdf?sequence=6&isAllowed=y 

5-محمد،ضياء الدين (أبريل 22, 2016    ) إلى أي مدى يؤثر تصميم المدن في سلوكك؟ :https://www.egyres.com/

6-(هاينريش زيل) June 1, 2018 كيف يمكن أن تقتل إنسانًا بشقة بنفس الفأس.”: http://health.138c.com/?p=113339

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Shopping Cart
Scroll to Top